سورة الرحمن - تفسير تفسير البيضاوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الرحمن)


        


{الرحمن عَلَّمَ القرءان} لما كانت السورة مقصورة على تعداد النعم الدنيوية والآخروية صدرها ب {الرحمن}، وقدم ما هو أصل النعم الدينية وأجلها وهو إنعامه بالقرآن وتنزيله وتعليمه، فإنه أساس الدين ومنشأ الشرع وأعظم الوعي وأعز الكتب، إذ هو بإعجازه واشتماله على خلاصتها مصدق لنفسه ومصداق لها، ثم اتبعه قوله: {خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ البيان} إيماء بأن خلق البشر وما يميز به عن سائر الحيوان من البيان، وهو التعبير عما في الضمير وإفهام الغير لما أدركه لتلقي الوحي وتعرف الحق وتعلم الشرع، وإخلاء الجمل الثلاث التي هي أخبار مترادفة ل {الرحمن} عن العاطف لمجيئها على نهج التعديد.
{الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ} يجريان بحساب معلوم مقدر في بروجهما ومنازلهما، وتتسق بذلك أمور الكائنات السفلية وتختلف الفصول والأوقات، ويعلم السنون والحساب.
{والنجم} والنبات الذي ينجم أي يطلع من الأرض ولا ساق له. {والشجر} الذي له ساق. {يَسْجُدَانِ} ينقادان لله تعالى فيما يريد بهما طبعاً انقياد الساجد من المكلفين طوعاً، وكان حق النظم في الجملتين أن يقال: وجرى الشمس والقمر، وأسجد النجم والشجر. أو {الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ}، والنجم والشجر يسجدان له، ليطابقا ما قبلهما وما بعدهما في اتصالهما ب {الرحمن}، لكنهما جردتا عما يدل على الاتصال إشعاراً بأن وضوحه يغنيه عن البيان، وإدخال العاطف بينهما لاشتراكهما في الدلالة على أن ما يحس به من تغيرات أحوال الأجرام العلوية والسفلية بتقديره وتدبيره.
{والسماء رَفَعَهَا} خلقها مرفوعة محلاً ومرتبة، فإنها منشأ أقضيته ومتنزل أحكامه ومحل ملائكته، وقرئ بالرفع على الابتداء. {وَوَضَعَ الميزان} العدل بأن وفر على كل مستعد مستحقه، ووفى كل ذي حق حقه حتى انتظم أمر العالم واستقام كما قال عليه السلام: «بالعدل قامت السموات والأرض» أو ما يعرف به مقادير الأشياء من ميزان ومكيال ونحوهما، كأنه لما وصف السماء بالرفعة من حيث إنها مصدر القضايا والإقرار أراد وصف الأرض بما فيها مما يظهر به التفاوت ويعرف به المقدار ويسوى به الحقوق والمواجب.
{أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِى الميزان} لئلا تطغوا فيه أي لا تعتدوا ولا تجاوزوا الانصاف، وقرئ: {لا تطغوا} على إرادة القول.
{وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان} ولا تنقصوه فإن من حقه أن يسوى لأنه المقصود من وضعه، وتكريره مبالغة في التوصية به وزيادة حث على استعماله، وقرئ: {وَلاَ تُخْسِرُواْ} بفتح التاء وضم السين وكسرها، و{تُخْسِرُواْ} بفتحها على أن الأصل {وَلاَ تُخْسِرُواْ} في {الميزان} فحذف الجار وأوصل الفعل.
{والأرض وَضَعَهَا} خفضها مدحوة. {لِلأَنَامِ} للخلق. وقيل الأنام كل ذي روح.
{فِيهَا فاكهة} ضروب مما يتفكه به. {والنخل ذَاتُ الاكمام} أوعية التمر جمع كم، أو كل ما يكم أي يغطى من ليف وسعف وكفري فإنه ينتفع به كالمكموم كالجذع والجمار والتمر.
{والحب ذُو العصف} كالحنطة والشعير وسائر ما يتغذى به، و{العصف} ورق النبات اليابس كالتين. {والريحان} يعني المشموم، أو الرزق من قولهم: خرجت أطلب ريحان الله، وقرأ ابن عامر {والحب ذا العصف والريحان} أي وخلق الحب والريحان أو وأخص، ويجوز أن يراد وذا الريحان فحذف المضاف، وقرأ حمزة والكسائي {والريحان} بالخفض ما عدا ذلك بالرفع، وهو فيعلان من الروح فقلبت الواو ياء وأدغم ثم خفف، وقيل: {روحان} فقلبت واوه ياء للتخفيف.


{فَبِأَىّ ءَالاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} الخطاب للثقلين المدلول عليهما بقوله: {لِلأَنَامِ} وقوله: {أَيُّهَا الثقلان}.
{خَلَقَ الإنسان مِن صلصال كالفخار} الصلصال الطين اليابس الذي له صلصلة، والفخار الخزف وقد خلق الله آدم من تراب جعله طيناً ثم حمأ مسنوناً، ثم صلصالاً فلا يخالف ذلك قوله خلقه من تراب ونحوه.
{وَخَلَقَ الجان} الجن أو أبا الجن. {مِن مَّارِجٍ} من صاف من الدخان. {مّن نَّارٍ} بيان ل {مَّارِجٍ} فإنه في الأصل للمضطرب من مرج إذ اضطرب.
{فَبِأَىّ ءَالاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} مما أفاض عليكما في أطوار خلقتكما حتى صيركما أفضل المركبات وخلاصة الكائنات.
{رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين} مشرقي الشتاء والصيف ومغربيهما.
{فَبِأَىّ ءَالاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} مما في ذلك من الفوائد التي لا تحصى، كاعتدال الهواء واختلاف الفصول وحدوث ما يناسب كل فصل فيه إلى غير ذلك.
{مَرَجَ البحرين} أرسلهما من مرجت الدابة إذا أرسلتها، والمعنى أرسل البحر الملح والبحر العذب. {يَلْتَقِيَانِ} يتجاوران ويتماس سطوحهما، أو بحري فارس والروم يلتقيان في المحيط لأنهما خليجان يتشعبان منه.
{بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ} حاجز من قدرة الله تعالى أو من الأرض. {لاَّ يَبْغِيَانِ} لا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة وإبطال الخاصية، أو لا يتجاوزان حديهما بإغراق ما بينهما.
{فَبِأَىّ ءَالاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانِ} كبار الدر وصغاره، وقيل المرجان الخرز الأحمر، وإن صح أن الدر يخرج من الملح فعلى الأول إنما قال منهما لأنه مخرج من مجتمع الملح والعذب، أو لأنهما لما اجتمعا صارا كالشيء الواحد فكأن المخرج من أحدهما كالمخرج منهما. وقرأ نافع وأبو عمرو ويعقوب {يَخْرُجُ}، وقرئ: {نُخْرِجُ} و{يَخْرُجُ} بنصب {الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ}.
{فَبِأَىّ ءَالاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ وَلَهُ الجوار} أي السفن جمع جارية، وقرئ بحذف الياء ورفع الراء كقوله:
لَهَا ثَنَايَا أَرْبَعٌ حِسَانٌ *** وَأَرْبَعٌ فَكُلُهَا ثَمَانٍ
{المُنْشَآتُ} المرفوعات الشرع، أو المصنوعات وقرأ حمزة وأبو بكر بكسر الشين أي الرافعات الشرع، أو اللاتي ينشئن الأمواج أو السير. {فِى البحر كالأعلام} كالجبال جمع علم وهو الجبل الطويل.


{فَبِأَىّ ءَالاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} من خلق مواد السفن والإِرشاد إلى أخذها وكيفية تركيبها وإجرائها في البحر بأسباب لا يقدر على خلقها وجمعها غيره.
{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا} من على الأرض من الحيوانات أو المركبات و{مِنْ} للتغليب، أو من الثقلين. {فَانٍ ويبقى وَجْهُ رَبّكَ} ذاته ولو استقريت جهات الموجودات وتفحصت وجوهها وجدتها بأسرها فانية في حد ذاتها إلا وجه الله أي الوجه الذي يلي جهته. {ذُو الجلال والإكرام} ذو الاستغناء المطلق والفضل العام.
{فَبِأَىّ ءَالاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} أي مما ذكرنا قبل من بقاء الرب وإبقاء ما لا يحصى مما هو على صدد الفناء رحمة وفضلاً، أو مما يترتب على فناء الكل من الإِعادة والحياة الدائمة والنعيم المقيم.
{يَسْأَلُهُ مَن فِى السموات والأرض} فَإِنَهم مفتقرون إليه في ذواتهم وصفاتهم وسائر ما يهمهم، ويعن لهم المراد بالسؤال ما يدل على الحاجة إلى تحصيل الشيء في ذواتهم وصفاتهم نطقاً كان أو غيره. {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ} كل وقت يحدث أشخاصاً ويحدد أحوالاً على ما سبق به قضاؤه، وفي الحديث: «من شأنه أن يغفر ذنباً ويفرج كرباً ويرفع قوماً ويضع آخرين» وهو رد لقول اليهود إن الله لا يقضي يوم السبت شيئاً.
{فَبِأَىّ ءَالاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} أي مما يسعف به سؤالكما وما يخرج لكما من مكمن العدم حيناً فحيناً.
{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثقلان} آي سنتجرد لحسابكم وجزائكم وذلك يوم القيامة، فإنه تعالى لا يفعل فيه غيره وقيل تهديد مستعار من قولك لمن تهدده سأفرغ لك، فإن المتجرد للشيء كان أقوى عليه وأجد فيه، وقرأ حمزة والكسائي بالياء وقريء {سنفرغ إليكم} أي سنقصد إليكم. و{الثقلان} الإِنس والجن سميا بذلك لثقلهما على الأرض أو لرزانة رأيهما وقدرهما، أو لأنهما مثقلان بالتكليف.
{فَبِأَىّ ءَالاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ يَا مَعْشَرَ الجنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} إن قدرتم أن تخرجوا من جوانب السموات والأرض هاربين من الله فارين من قضائه. {فانفذوا} فاخرجوا. {لاَ تَنفُذُونَ} لا تقدرون على النفوذ. {إِلاَّ بسلطان} إلا بقوة وقهر وأنى لكم ذلك، أو إن قدرتم أن تنفذوا لتعلموا ما في السموات والأرض {فانفذوا} لتعلموا لكن {لاَ تَنفُذُونَ} ولا تعلمون إلا ببينة نصبها الله تعالى فتعرجون عليها بأفكاركم.
{فَبِأَىّ ءَالاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} أي من التنبيه والتحذير والمساهلة والعفو مع كمال القدرة، أو مما نصب من المصاعد العقلية والمعارج النقلية فتنفذون بها إلى ما فوق السموات العلا.
{يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ} لهب. {مّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ} ودخان قال:
تُضِيءُ كَضَوْءِ السِرَاجِ السَّلِي *** طِ لَمْ يَجْعَلِ الله فِيهِ نُحَاساً
أو صفر مذاب يصب على رؤوسهم، وقرأ ابن كثير{شوَاظٌ} بالكسر وهو لغة {وَنُحَاس} بالجر عطفاً على {نَّارٍ}، ووافقه فيه أبو عمرو ويعقوب في رواية، وقرئ: {ونحس} وهو جمع كلحف. {فَلاَ تَنتَصِرَانِ} فلا تمتنعان.
{فَبِأَىّ ءَالاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} فإن التهديد لطف والتمييز بين المطيع والعاصي بالجزاء والانتقام من الكفار في عداد الآلاء.

1 | 2